إستهلال الرواية
الفن ليس مرآة للحياة، إنه جوهر
الحياة وخلاصتها.
لاجوس إكري 1948
دَلَفَ طفل إلى درب شبه مُعْتِم ،
ينال حظّه من النور، عبْر فَجَوات بين السقوف، فشعر على وجهه وكتفيه العاريتن
بهواء رطب يريح النفس، ويخفف عنها أعباء قيْظ اغسطس الجاثم على المدينة الحمراء في
صيف سعير.
وكعادته كل يوم خميس، يستعجل الخُطى ،
بل يكاد يقفز، يدفعه شوقٌ متاصّل لرؤية أبيه، وعناقه، وسماع صوت يتغذى منه وعيُه،
وتبتَلّ به عروقه، منذ أن إستفاق إدراكُه بما حوله.
كان فوق جسمه لباس داخلي برتقالي بدون
كُمّين، وسروالٌ قصيرفوق الركبتين، بلون الصلصال. وجهه مبتسم وقلبه مُتْرعٌ
بالسعادة، لِما يتوقّعه، في نهاية اللقاء الآسبوعي مع والده، من الحصول على نقود
ليعرّج على الحلاق، أو يشتري كتابا، أو لقضاء أغراض تتطلبها الظروف.
وبطريقته، كان يوفّرما يدخل به
للسينما مع أصدقائه، دون ان يسقط من الحساب كراء الدراجة ساعةً واحدة للطواف
بأحياء المدينة.
كان للطفل مع والده، تعابيرٌ
بالتلميح يفهمانها معاَ، عندما يتعلق الأمر بوالدته؛ فبعدما يحصّل مايشاء، وكلاهما
امتلأت نفسه بالرِّضى، يحني رأسه على كتف أبيه، مبتسمَ الوجه، هادئَ الإنفعال،
ويقول كَمَن يذكّرويمهّد للإنصراف:
ــ كدت أنسى...أمّي تُقرؤك
السلام.
يمد الوالد يده اليمنى الى حافظة
نقوده ووثائقه، واليسرى تحوط بجسم ابنه النحيل، يستل ثلاثة أوراق حمراء، يتوسط
كلَّ ورقة دمغةٌ بيضاء، من فئة عشرين ريالا، يبسطها أمامه على السجاد، واحدة فوق
الأخرى، ويقول لولده بعطف ممزوج بألم دفين، وهو يُغالب نفسَه ألّا يشِي وجهُه بما
في قلبه :
ــ سلّم أمَّك هاته الأمانة ,وأبلغها
السلام.
ينحدر الطفل، وهو لم يتجاوز الثانيةَ
عشرةَ من عمره، ملتويا مع منعطفات الدرب، مادّاً
ساقَيْه الطويلتين، يُسابق قلبَه للوصول إلى الدار. ومن بعيد يرى حشداً من الناس،
بعضهم يجلس على التَّكتيْن على يمين ويسار الباب، على غير العادة، وبعضهم الآخر
يجلس القرفصاء. لم يتبيَّن البوابَ بينهم، ثم يخرج رجل في عجَلةٍ من أمره، كاد أن
يصطدم بالطفل الذي إنقبض قلبُه في لمح البصر،قبل أن يقول له القادم بجهالة كريهة،
كفحيح أفعى :
ــ مات أبوك.
أحبطه الخبر، إفترش التراب، تملّكه
خوفٌ لاقِبل له بمقاومته منعه من التقدم. إمتثل لطائفٍ داخلي بالعودة إلى امه
يبلغها ماشاهد وسمع.
عندما وصل الى باب الدار حيث تقطن امه، أمره وازع
أن يتوقف ، بعد حوالي ثلاثين دقيقة من الركض، حتى يلتقط انفاسه، وينخفض لُهاثه.
يشعر بقلبه، تحت ضلوعه، وقد تحوّل إلى دمّالة متحجرة ، من شدة الألم، وبمعركة بينه
وخصم ٍمجهول، قد شرعت باندفاع وقساوة .
يمسح العرَقَ والدموع عن جبينه وخديه
بظهر كفّه، يضغط على رأسه بكلتي راحتيه، يستحوذ عليه إحساس مباغث؛ عُمْره زاد بضع
سنين خلال المسافة التي قطعها جرياً. تستقبلته أمه محبورة برؤيته، وتبتسم ابتسامة
زادت وجهها إشراقَاَ، تدهش من حاله وارتباكه، وتسأله مستغربة :
ــ مابك ياولدي؟
ويقول منخرطاً في نحيبٍ شاهق :
ــ مات أبي.
خابت البسمة من وجهها، وأعادت السؤال
بإلحاح :
ــ ماذا تقول...ماذا تقول؟
ــ مات ابي
... مات ابي...
وبعد
ان ترسّخ الخبر في وعيها، غامت عيناها، سرى في عروقها تيار غامض بغتة، هدّها
وأنهكها، تحوّل الفضاء حولها إلى كتلة من سديم مكفهرّ، وندّت من احشائها صرخةٌ
حادة، كسيفٍ مسلول، تُقطّعُ الهواءَ تقطيعاً، متجهةً إلى من يَهمُّه الآمر:
ــ الله.....يـــا عـــزيــــــزى.
وخرّت على الأرض مغشياَ عليها.
يدقّ سكونٌ رهيب أوتاده بالمكان،
ويدرك الطفل أنه قذف بصخرة ملتهبة، على دارٍ هشة البناء، تحتوي كنوزاً من الذكريات
النفيسة، ويستعصي عليه أن يوزّع حزنه ودموعَه وآلامَه ، بإنصاف، بين الداريْن.
ما الذي حذث ؟ ما هذا العالم الذي
تهاوى ؟ فتهاوت معه زهراء ؟
و تبدأ رواية قصة حدثت في زمان ومكان
معلومين. منذ ثلاث وأربعين سنة.
زمان طافت بذاكرته خيالات مضت، كأنها
ما مضت.
1
توقفت عربة تجرّها أربعة خيول مطهّمة في الساحة، أمام
بوابة شاهقة، من أبواب المدينة السبعة. غبار كثيف يكسوا العربة والخيول. يصيح
الحوذي (وصلنا)، تأخذ الخيول تصهل وتزفر، وقد خَبا بريقُ شعرها بفعل الغبار
والعرَق.
يُفتح باب العربة برفق، وينحنى راكبٌ مديد القامة، مهيّئاً
نفسَه للخروج. دون استعمال الدرج، يترجّل مستعجلا الوقوف على الأرض الثابتة.
يمد
ذراعيه الطويلتين أماماً وخلفا ثلاث مرات، يمطّ ساقيه، يتنشق الهواء بعمق،
يرفع بصره إلى السماء، يجول بعينيه الواسعتين في حركة دائرية، تشمل الساحة ،
والباب المنقوش في الصخرالآصفرـ بالآزرق والآحمر، وعلى جناحيه بابان صغيران
مزركشان بالفسيفساء اللامعة. الناس يموجون، رجال يركضون ونساء تتهادين وأطفال
يدورون حول أنفسهم، يختبئون وراء الأشجار الخضراء. الظلال تلقي بنفسها على الأرض
متزاحمة. والمآذن في السماء باسقات.
يند عنه صوت؛ مسحوراً بالألوان الساطعة والخيالات السارحة أمام
ناظريه :
ـ ياله من شذىَ يملأ الهواء والصّدر!
يبتسم وجهه المنشرح، وتنفرج أساريره رافضةً وعْثاءَ
السفر.
يغادر صاحبه العربة متثاقلا يجر رجليه، منبهراَ بنورالساعات
الأولى من الصباح. يقف الشابان أمام الجياد المنهكة ينتظران نزول أمتعتهما، يمد
الشاب الطويل يده إلى جيبه، يخرج قارورة طيب صغيرة، يطلى عنقه ووراء أذنيه، وجهه
دائري، يتوسطه أنف دقيق مستقيم، يشير إلى الشارب الأشقرفي لون الحنطة.
من العينين الواسعتين تنبعث نظرة نفّاذة؛ لا بل هي إشارة خفية
تفرض الإذعان والعزم.
هو خليل الأندلسي في سنّه الخامسة والعشرين. يقول بصوت ضاحك
موجهاَ خطابه لصاحبه الرازح تحت وطأة الإجهاد:
ـ إبتسم يارجل، فأنت في أرض الأمان.
ويمد له قارورة الطيب.
يتسلمان رزمتيهما من الحوذي ويتوجهان نحو الباب العملاق الذي
يتوسط سور المدينة، مفضياَ إلى أرجائها ومتاهاتها وإبهام المصير.
يتحرك
خليل سريعَ الخطو والبال، ينساب في محيطه كسمَكة في ليونة ويسر، منقادًا
لتفاعلات داخلية لاسبيل لردعها حتى في منامه. يحمل بين جوانبه موهبة شاعر حالم.
الخطيئة في نظره هي غياب الجمال بأوسع معانيه.
يتقدم يحمل رزمة أشيائه، يتبعه رفيق الصبا والشباب؛ أحمد نادر،
أسمر، مربوع القامة، يكاد يهرول في مشيه، خافضَ الجناح و النظَر.
فجأة يتوقف خليل أمام نافورة منْدسّة في جدار، تصب الماء
بغزارةِ ورنينِ شلاّلٍ صغير. يغسل يديه ويشرب ملء كفيه، يجلس على حافة الحوض،
ويخاطب أحمد نادر متألقَ الوجه :
ـ يبدو لي أن هذه المدينة تستوجب فؤادا كبيرا لكي يسعها؛
عطرُها يستطير، دروبها ملتوية، والمرح والغواية مرسومةٌ على السحنات.
ـ قال أحمد نادر مستطلعاً باطن الكلام :
ـ هل العطر المستطير يريح، أم يستثير ويتعب؟
قال خليل بحذر:
ـ سنرى. لنكن منفتحين على كل الإحتمالات. وعلى كل، فالهدف
الآني هو الطعام والمأوى.
ـ يجيب نادر موضحا الحال :
ـ خمسة أيام من إنهاك السفرلاتترك للعقل قدرة على التقييم
السليم.
يردف خليل هازًّاَ رأسه مؤيدا :
ـ
رحابة الفضاء، الهواء الشذيّ، نظافة اللباس؛ كلها تشير للإطمئنان. حيا الله أرضك
من ثرى؛ يافاس.
رمى
أحمد نادر صاحبه بنظرة لاتخلوا من أسف
ـ
القاضي المغيلي صادق في وصفه. كان علينا توديع آزمورقبل اليوم، رغم حبنا للتربة
الآم.
لم
يجب خليل، يقف على قدميه، يتكأ على جدار، ويغيب يناجي نفسه : لولا حبي لأمي، وخوفي
عليها من آلام فراق ثان، لجئتك يافاس قبل اليوم، أتمرّغ قي ثراك، أستنشق شذاك،
أغترف من معارفك، وأدفأ بين حناياك. ألآن وقد رحلت أمي إلى رحمة الله، هفا إليك
القلب والفؤاد والجوارح.
يافاس،
وفدتُ إليك متضرّعاً، فلا تخذليني، وطامعاً، فلا تصدّيني، آزمور مَنْبتي، وأنت
مهدي. على أرضك، وتحت سمائك، أسأل السكينة للقلب والروح.
يعترض أحمد نادرتيار سهوه :
ـ ياخليل، إذا لم تكن جائعاً، ألاتحس برغبة في الراحة؟
يعود خليل إلى وعيه بالمكان، يحاول صدّ جموح الذاكرة، فلا
يفلح. يمسح دمعة قبل أن تنزل، شهادة حزن على فراق أمه التي اختطفها قدر غادر، غماً
وكمداً على أخيه الذي ذهب للحج، وكابدت الأم سبع سنوات من حرقة إنتظارعودته. وأبوه
كان يتشوّف ليراه، وليخفف عنه أعباء العناية بالأرض والخيل. وردت أخبار عنه تفيد
بزيارته لجبل الشوف، ليربط الصلة بفرع العائلة هناك. طاب له المقام فتزوج واستقر.
توقفت البشائر عنه مابين جبل الشوف والقدس، وبقي قلب الأم معلقاَ بقدوم الغائب،
مركّزة شحنات العاطفة على خليل الحاضر، في كل يوم يبهت الأمل في العودة، وتغوص أمّ
خليل قي هوة سحيقة من الكآبة، إلى أن توقف نبض القلب، بدون إنذارولا مرض ظاهر.
قالت المرحومة يوماَ لزوجها في حضورخليل :
ـ لااحتمال لي على تلقّي فاجعتين في عمري. وإذا وافاني الأجل،
أتوسل إليك أن تطلق سراح خليل، إنه لم يُخلق للغوص في الأرض وأوحال الخيول.
ورد مواسيا بإشفاق على حالها :
ـ الأرض في دكّالة مهجرُ العائلة، والكل عاش من حظائر الخيول،
وبيادر الخرطال.
كان خليل يهفو مرة إلى خيار أمه، ومرة إلى منطق أبيه. العائلة
تملك أراضي شاسعة في لحساسنة ولكعابرة وهشتوكة، أرض معطاءٌ وافرة الإنتاج، إختارت
عائلة الأندلسي دكّالة ملاذا لحياتها، ومالِها الذي تراكم عبر السنين، في آخر دفعة
فارّة من الأندلس، إلى رحاب السهول المغربية.
ثغر آزمور تربة وطئتها أقدام الفارين، منذ أن شرعت النكسة في
الأندلس، ولكن المدينة ضاقت بطموح خليل، وضاق بها قلبه بعد موت أمه. التطلع إ لى
العناية بالخرطال والخيل يسد ّآفاق عشقه للشعر والفلسفة، والمغامرة. وكان يناجي
نفسه؛ سأعتني بملك العائلة، وأحافظ على اسمها وتاريخها، عندما ترضى النفس، وتطفح
بشعر ابن زيدون وشوقي، ومعارف أرسطو وكل النبغاء؛ القدامى والمحدثين.
بلغ من العمرخمسًا وعشرين سنة، ولا ولّادة تخطرفي الرحاب
ليحتضنها الشوقُ وتوهّجُ المشاعر. هل يبقى حبيس الحرمان والرثاء والأنين ؟ وما
قيمة الإكتناز دون أفراح الحياة ؟
إستجمع قوّاه ذات يوم وقال لآبيه بعد انقشاع سُحُب الغمّ، أو
تكاد :
ـ أبي ! سأذهب ألى فاس لأتمم دراستي.
كان ذالك في الأيام الأولى من أكتوبر سنة 1913، بعد سنة من بسط
الحماية على المغرب. وكان الأب يعتبر ابنه كنزاَ لاينبغي التفريط فيه. وما قيمة
الكنز إذا منع من الصرف؟ وهاهو خليل ادركته الرجولة، واستصدر رضى أبيه وموافقته
على أن يتكفل بنفقة وجميع مصاريف أحمد نادر، رفيق الصبا والشباب والتطلع الى
المعرفة، مطمئناَ لطبعه الهادئ، والتزامه بالقناعة والحياء والصدق. نال من والده
مايبتغي، حتى لآيبقى منعزلا وحيداَ قي مدينة أصبحت رحىً لتاريخ المغرب غداة
الإستعمارالمجلبَب في خرقة الحماية.
كان أحمد نادر يتيم الأب الذي سقط تحت وطأة الهرَم والفاقة،
بعد أن كدّ طول العمر كحوذي لعربة يجرها فرس هزيل. إستمرت أمه بدون مُعيل، تكسب
رزقاً شحيحا بالعمل في البيوت. إختارته الظروف صديقاً لخليل منذ الصبا، عندما كان
يرافق أمه للعمل ب(دارألأندلسي.)
يكتب الدروس في كناش صغير لايفارقه، كل درس يخصص له ثلاثة إلى
أربعة أسطر، مهما بلغ من الطول، والباقي مرسوم قي عقله. قلما يعارض خليل؛ مما يرضي
غرور هذا الأخير؛ هذه بعض الأسباب التي جعلته ضيفاً دائما. وهناك أسباب عميقة أخرى
لايدركها خليل، وإنما يحسّها بقلبه فقط.
فأحمد نادر يملأ فراغ الأخ الغائب، والأخت التي لم تولد، يقيم
مع أمه فترات، وفي دار خليل كل الوقت. يسهران على ضوء الفانوس والشموع، يدرسان،
يحلّلان، يعربان الجمل المعقدة، يشرحان المتون، يستمتعان بالشعر والموسيقى وفتنة
الطبيعة.
أصبحا كالآخوين، كفصين في بذرة واحدة، مع فارق في الطبع؛ خليل
طموح جموح، يدفعه شوق متأصل لملذات الحياة وطيباتها،وخوْض أهوالها؛ ورغبة عارمة في
المعرفة لاتستكين. كانت أمه تقول له وهو يافع :
ـ إنك تكتب في منامك يابني؛ أصابعك تتحرك في نومك كمن يكتب في
لوح.
أما أحمد نادرالذي يكبر خليل بسنتين ، فله نظرة تبدو واهنة
مستسلمة في الظاهر. أما عقله فسريع إدراك للعلاقات؛ كل العلاقات؛ بين الأرقام
والرموز، والألفاظ والمعاني، والحياة والموت.
من التناقض يلتئم الإئتلاف، ومن هذا الإئتلاف والإندماج الروحي
نشأت فكرة المغامرة إلى الساحل الأخرمن وادي أم الربيع في آزمور، والعبورإلى فاس؛
الساحل الموالي قي رحلة الحياة الطويلة.أوالقصيرة، كما ترى .
ليست فاس اليوم قبلة للعلم فحسب، ,إنما بوتقة ينصهر فيها
التناغم بين الأجناس و الفئات. كانت مركزا حضاريا وسياسيا للمغرب؛ مثل مكناس،
والرباط، وطنجة وتافلالت، ومراكش.إنها بوتقة تذوب فيها آمال التجار، وأحلام
العلماء، وإبداع الحرفيين، وعشق الشعراء.على منوالها ينسج المؤرخون تاريخ الوجود
المغربي ، في مستهل الحلقة الثانية من القرن العشرين، وبدايات الحلقة الثالثة من
عمر خليل الأندلسي، وأحمد نادر.
تربعت الشمس مستوية في قبة السماء الزرقاء.وبسطت ألوية نورها
على المراعي وأسطح المنازل والمدابغ والمتاجر. في ذالك اليوم من غرة أكتوبر،
تَغْلي شرايين المدينة بالحياة وتمُور، ويزيد الشعورَ بانجرافها تدافعُ مياه وادي
فاس هادرةً بين العدوتين. مافتئ الشابان يتسكعان قي جولة استكشاف للمدينة،
مُفْعَمَين بالأوان وروائح العطور والتوابل، مشدوهيْن بزحام البغال والناس؛ الكل قاصد
هدفًا، ورنات الكلمات تتطاير في الفضاء، من دكان إلى سائق بغل أو جمل، إلى صاحب
مطعم أو بائع حلوى، على قارعة الدرب.
أوركسترا تتبادل الرنات، وتتقاذفها فوق الرؤوس. لكل فم نغمة،
ولكل مقام معنىً. يستشعران ببعض النوتات تشير إليهما. وفي معماع الحركة في الحومات،
إصطادتهما رائحةٌ لاتُرد، تجرّ الجائع جرًّا، إسفنجٌ مقلي بالسمن البلدي، ولحم
القدّيد يطبخ مع البيض. ورائحة النعناع.
توقفا أمام دكان له مدخل يفضي إلى باحة. يصطف الشارون امام
صاحب الدكان، يقتنون الإسفنج معلقًا في شريط من الدوم، والبادنجان المقلي كذالك
مفرومًا على لوح خشبي . ويدخل الباحة من أراد تناول الطعام في نفس المكان.
وفي الحي تخطر النساء متلفعات بكساءات صوفية وعيون كحيلة
فاتنة؛ وتهفوالأفئدة العطشى لتمايل القدود، تتبعها النظرات.
نفذا إلى الباحة وقصدا موقعًا:
ـ إذا تكرمت.
نطقها خليل مستئذنًا رجلا يجلس وحده على مائدة مستديرة مُعدةٍ
لجلوس أربعة.
ـ على الرحب والسعة. أجاب الرجل من وراء نظارته السميكة، تفحص
الوجهين، صدرت من عينيه إبتسامة مرحبة وهو يرنو من طرف خفي إلى الرزمتين.
يمد راحته بالسلام
ـ أخوكما في الله المعلوم الشنقيطي.
قال أحمد نادر بفرحة مكتومة
ـ هل انت من شنقيط؟
رد بمودة
ـ أصلاً. أما المولد والنشأة فمن مراكش.
وجاء الطعام للجميع.
دار الحديث في جوّ أخويّ ممزوج بعطر الياسمين، العابق من
شجيرات الباحة. الكل في المكان يتبادل أطراف الحديث بنشوة، في فضاء من البهجة.
بعد الإنتهاء من الطعام، والأداء من طرف خليل الذي مهد
للأنصراف موجهًا الكلام للشنقيطي :
ـ كما ترى. طالبان جديدان في سعي للإنتماء إلى جامعة القرويين.
وبادر أحمد نادر إلى التذكير بالمستعجَل
ـ وفي سعي حثيث لمكان يأويان إليه قبل العصر.
قال الشنقيطي عاقدًاالعزم على تقديم المساعدة
ـ قوما على بركة الله
ويتقدم الثلاثة، منحدرين وسط المدينة، وفي زحمة من الناس
والبهائم، ظهرت قاطرة من البغال تحمل أكياسًا من الخيش محشوة بالصوف المغسول،
تتبعها قافلة أخرى من الجمال والحمير، تحمل أكداسًا من الجلود المدبوغة، ناصعة
الألوان.
سأل أحمد نادر مندهشًا يشير لتقاطر البضاعة على ظهور الدواب،
دون توقف :
ـ لاريب أنها متجهة لمصانع الحرفيين لتخرج بضاعة للبيع ؟
أجابه الشنقيطي كأنه يتلو في كتاب :
ـ إنها حركة الله في الكون . الجلود والصوف، كلها غَلّة ،
تدررزقاً وفيرا لأصحابها. أظن أن قطعان الحيوانات في البلاد أكثر من عدد العباد.
إستطرد خليل
ـ لاغرابة أن صناعة الجلد تُعرف في جميع الأقطار ب(الصناعة
المغربية).
وبعد السير في انعطافات ، توقف الشنقيطي أمام فندق من طابقين،
في وسطه حظيرة للبهائم، في مدخله تفاوض مع رجل، وتم الإتفاق على الغرفة والثمن، بموافقة
خليل. حطا حملهما واستقرّا في المأوى الجديد، وعزم الشنقيطي على توديع الشابين.
إستوقفه أحمد نادر :
ـ بالمناسبة...هلا تفضلت بتنويرنا بعملك في فاس؟
قال ملوّحًا بيديه وخافضًا رأسه :
ـ مثلكم طالب.
بدت الدهشة على الوجهين، واستطرد نادر :
ـ ولم تقل شيئًا حتى أجبرتنا على السؤال.
إستعد الشنقيطي لشرح الحال :
ـ الكل بأمر الله. وفدت منذ سنة لدراسة التصوّف، وفوجئت بإلغاء
الكرسي منذ ست سنوات. أردت التحول من دراسة كيمياء الروح إلى كيمياء المادة،
فتبيّن أن هذا الفرع من الدراسة حصْرٌعلى اليهود ولايُقبل عليه الطلبة المسلمون،
لتفسيرات دينية. وهكذا قررت حضور حلقات مختلفة، كمستمع غير رسمي، والتعمق في أحوال
المدينة.
إستفسر الحطاب بفضول :
ـ وماذا علمت من أحوال المدينة؟
ـ علمت أن قوافل الصوف والجلد تعود لرجل واحد، خرافيّ الشخصية،
يُدعى (ملِك الجلود)أو عبد القادر عمّور؛ مامن حذاء مدهّب بالحرير، تتمخطر به ربة
بيت، أو لبْدةٍ يسجد عليها عابد ـ إلاّ خرجت من يد عمّاله. وهو صاحب الفندق الذي
نقيم فيه الآن. وأن دخول الإستعمار منذ سنة، تسبب في انخفاض عملة المغرب وارتفاع
الأسعار كالحَمَم في بركان.وان المدينة أصبحت تتوفر على مكان للبغاء. وقس على
ذالك.
قال الحطاب بتصميم :
ـ أريد التعرف على ملك الجلود. وماذا عن النساء؟
قال الشنقيطي ساخرًا مستنكرًا، يهز رأسه يمينًا ويسارًا :
ـ عليك بالزواج؛ أو تنكفئ على وجهك إلى الماخور، والعياذ
بالله.
يتدخل أحمد نادر سادّا الطريق على المزيد من أسئلة خليل :
ـ شكرًا ياشنقيطي. لولاك لضاعت لنا سنة في البحث المُعمَّق.
قهقه الثلاثة من أعماق القلب، وضع الشنقيطي يده اليمنى على
قلبه وانحنى هامسًا :
ـ إلى اللقاء في رحمة الله.
للرواية بقية ...
تطوان : في 08 يوليوز
2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق